ان فبركة وتزييف الأخبار في روسيا البيضاء (بيلاروسيا) ليس بظاهرة طارئة ظهرت فقط مؤخّرا. في نيسان / أبريل الماضي، قامت قنوات التلفزيون والصحف الحكومية بعرض صور مخيفة لمتظاهرين يحملون زجاجات المولوتوف الحارقة وغيرها من الأسلحة. وزعمت التقارير ان هؤلاء المتظاهرين هم أعضاء في “الفيلق الأبيض” وبأنهم يسعون لإشعال انتفاضة في مينسك على غرار الاحتجاجات المسّماة بـ “يورو ميدان” والتي انتشرت في أوكرانيا في عامي 2013 و 2014، مساهمة بشكل كبير في تفجير أزمة شبه جزيرة القرم فيما بعد.
ما يلفت النظر هنا هو أن المنتجين والمراسلين الذين أعدّوا هذه التقارير المصوّرة ظلّوا مجهولي الهوية. فلم تذكر أية عناوين أو أسماء فيها على الإطلاق. ولا يوجد هناك أي دليل على أن الفيلق الأبيض المزعوم، وان كان لديه سابقا وجود فعليا على أرض الواقع ، كان قد عاد الى العمل على أي مستوى في السنوات القليلة الماضية. ومن المثير للاهتمام أيضا أن الشرطة وقوات الأمن لم تجب على أي استفسارات من قبل الصحفيين أو من الجمهور حول هذه القضية.
اتضح فيما بعد أن القصة كان قد تم اختلاقها بأكملها، ثم تقديمها وبثّها على أنها قصة إخبارية حقيقية عن واقع مفترض، لنشر الخوف والذعر داخل المجتمع. وكانت الرسالة وراءها هي: لا تخرج الى الشارع ولا تشارك في التظاهرات، فأولئك الذين يفعلون ذلك يقوّضون السلام والاستقرار!
هذا تكتيك معتاد ولقد اتّبع في بيلاروسيا لسنوات عديدة مضت، حيث يتم إخفاء الأخبار الحقيقية لمصلحة الأخبار الزائفة المزدهرة في هذه البلاد. ويتم استخدام هذا التكتيك كثيرا في الوقت الراهن، حيث شهد عام 2017 احد أكبر الاحتجاجات في البلاد منذ سنوات عديدة، مما قوبل بردّ فعل عنيف من قبل الحكومة.
في ظل الحكم السوفيتي، كانت بيلاروس بلدا مزدهرا. ولكن عندما انهار الاتحاد السوفياتي، مرّت البلاد بفترة تدهور اقتصادي طويل. صعد الكسندر لوكاشينكو إلى السلطة في خضم هذا الاضطراب الاقتصادي والسياسي، ولا يزال اليوم في الحكم على الرغم من مرور 23 على توّليه الحكم. ويرجع ذلك إلى حد كبير إلى سيطرته على وسائل الإعلام، حيث استمرت الهجمات ضد الصحافة الحرة، والمدوّنين، والكتاب والصحفيين المستقلين جنبا إلى جنب مع أنشطة آلة الدعاية الرسمية الضخمة.
تتبّع برامج الأخبار على القنوات التلفزيونية المملوكة للدولة، التي تحتكر الأثير حيث لا توجد قنوات محلية خاصة، تتبّع نمطا بسيطا ولكن مقنعا، فتبثّ بدءا أخبارا عن الرئيس: ها هو يأتي ليحيّي سفير أجنبي ويلقي كلمة عن الدور الخاص الذي تقوم به بيلاروسيا في الاستقرار والسلام في العالم؛ أو ها هو يجتمع مع وزير الداخلية ليدلي ببيان حول أهمية الحفاظ على الاستقرار والسلام داخل المجتمع، أو يصرخ في مجلس الوزراء بأن عليهم أن يفعلوا كل ما يلزم لمتابعة أفكاره “الحكيمة” لخدمة مصالح الشعب (ناهيك عن السلام والاستقرار)،أو هو يقوم بزيارة مصنع في مدينة صغيرة ليتحدث إلى العمال وكأنّه والدهم الحنون ويقول لهم انه سوف يوفر لهم كل سبل الدعم والاهتمام.
بعد أن تبث القنوات الرسمية زهاء نصف ساعة من هذا النوع من الأخبار الرئاسية، تقوم بعدها بعرض مشاهد سريعة من بقية العالم: قذائف تسقط على أوكرانيا؛ قنابل تدمر مستشفى في سوريا، تصريحات غريبة من رئيس دولة تقع بعيدا عبر المحيطات. إرهابي يفجر نفسه في مدينة أخرى في أوروبا؛ لاجئون يتدفقون، وفيضانات، وركود اقتصادي، وحكومات تنهار. ثم يتبع هذه الأخبار المريعة تقرير حول أطفال سعيدين في رياض الأطفال البيلاروسية ثم بعض المشاهد الأخرى لبلد مسالم يقوده زعيم حكيم يبقى الملاذ الأخير لرفاه وخير البلاد التي تصوّر على أنّها واحة من الاستقرار في عالم عنيف جدا.
ولكن هناك أنواع أخرى من البرامج يتم بثها على تلفزيون الدولة عندما تشعر السلطات أن صورة “السلام والاستقرار” التي تبثها القنوات الحكومية تتناقض مع الواقع الآخر، أي ذلك الذي يراه الناس في الشوارع وفي أماكن عملهم، وفي محلات البقالة، وفي وسائل النقل العام، وفي المستشفيات والمدارس، وهو واقع يشذ عن العالم الوهمي التي تحيكه الدعاية الحكومية.
في بداية عام 2017، نزل الآلاف في جميع أنحاء بيلاروس إلى الشوارع للاحتجاج. شرارة تلك الاحتجاجات كان المرسوم الرئاسي الجديد رقم 3 الذي فرض غرامات على الأشخاص الذين لا يتمكنون من اثبات وجود أي عمل أو دخل لديهم. وقد أطلق عليه اسم “مرسوم الطفيلي الاجتماعي”. هناك مصطلح سوفيتي قديم،” تونيجادسي”، وهو يعني حرفيا الطفيليات، و “التطفل” كان يعتبر جريمة في العصر السوفياتي، حيث كان من المتوقع أن يعمل الجميع لبناء “المجتمع الشيوعي المثالي”. لكن “الاختراع” البيلاروسي ذهب خطوة أبعد في هذا المجال